تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

واضحة وسلطانه قوي. فهو يستمد حجته من آيات الله في الكون. ومن آياته الخاصة معه. وانما لجأ فرعون الى اتهام موسى انه ساحر (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى).

وهكذا طلب فرعون الى موسى تحديد موعد للمباراة مع السحرة وترك الخيار له : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ.) والكلمة الصادقة تلمس بعض القلوب وتنفذ فيها. ويبدو ان هذا الذي كان فقد اثر أثره. واخذ السحرة يجادلونهم همسا (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) وقد ملئت قلوبهم خوفا وهلعا فقد خيروا موسى في الالقاء. (قالَ بَلْ أَلْقُوا) (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّها تَسْعى ..) قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) لم يوجس موسى (ع) خيفة على نفسه. بل خاف غلبة الجهال)

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

البيان : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فمعك الحق والحق يعلو ولا يعلو عله. معك العقيدة الصادقة. معك الايمان الصحيح وانت متصل بالقوة التي لا تغلب ولا تقهر. (أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) فهو سحر ومكر وحيلة فيذهب امام الحق هباء منثورا.

٣٦١

والقى موسى (ع) عصاه فتلقفت جميع ما سحروا. ووقعت المفاجأة الكبرى. وذهل السحرة مما رأوا وعاينوا ولم يبق لديهم ادنى ارتياب بان هذا من صنع الخالق لا من صنع المخلوق لأن صاحب المهنة خبير باهل مهنته (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى). انها اللمسة التي تصيب القلوب المتفتحة فتحييها كما تحيى الارض الميتة اذا اصابها المطر. انها لمسة الايمان للقلب الصالح للنور. متى اتصل بمادة الاضاءة. والاستنارة والحياة الروحية فتحول ذلك القلب الميت الى حياة والمظلم الى نور. فتخرجه من الكفر الى الايمان الصادق (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ .. قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) دونك وما تملكه في هذه الحياة ان سمح لك صاحب الحياة ومن بيده حياتك وموتك وحركتك وسكونك (انه من يأت ربه مجرما فان له نار جهنم) فاذا كان يتهددهم بعذابه فلا قيمة لذلك عند نار جهنم. وهزأت القلوب المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر وواجهته بكلمة الايمان القوية وباستعلاء الايمان الثابت. وبتحذير الايمان النافع وبرجاء الايمان العميق (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ). ومضى هذا المشهد في تاريخ البشرية حجة كبرى على العالمين واعلانا لحرية القلب البشري حين يستنير انه مشهد انتصار الحق والايمان في واقع الحياة المشهود. وانتصار العقيدة في قلوب السحرة على الاحتراف. وانتصار الايمان في قلوبهم على الرغبة والرهبة. فالآن ينتصر الحق على الباطل والهدى على الضلال .. وينتصر الايمان على الطغيان في الواقع المشهود والنصر الاخر مرتبط بالنصر الاول. فما يتحقق النصر في عالم الواقع الا بعد تمامه في عالم الضمير (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا)

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ

٣٦٢

مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤)

قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦))

البيان : لا يذكر السياق هنا ما الذي كان في مواجهة الايمان للطغيان في موقف السحرة مع فرعون. ولا كيف تصرف معهم بعد اعتصامهم بايمانهم مستقبلين كل تهديد ووعيد من فرعون. بقلب مؤمن أقوى من الفولاذ. قد تعلق بربه. واستهان بحياة الارض وما فيها ومن فيها.

وانما يعقب بمشهد الانتصار الكامل ليتصل النصر القلبي بالنصر الواقعي وتتجلى رعاية الله وعنايته لعباده المؤمنين كاملة حاسمة. (أَسْرِ بِعِبادِي. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) : لقد تولت يد القدرة الآلهية ادارة المعركة بين الايمان والطغيان. فلم يتكلف أصحاب الايمان فيها سوى اتباع الوحي. لأن موسى وقومه لا يملكون قوة المقاومة لفرعون وفرعون بيده القوة كلها. فلا سبيل الى خوض معركة حارة مسلحة. هنا تولت يد القدرة ادارة المعركة. ولكن بعد ان اكتملت حقيقة الايمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها.

وما أدل على هذه القوة من قول السحرة (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) مستهزئين بفرعون وقوته. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) لقد تجاوزوا منطقة الخطر ورأوا بأعينهم هلاك عدوهم (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) والتوبة ليست كلمة تقال باللسان وكفى.

٣٦٣

انما هي عزيمة بالقلب وعمل بالجوارح. ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع. فاذا وقعت التوبة وصح الايمان وصدقه العمل فهنا يأخذ الانسان سبيل الامان من كل خوف وحاجة. (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) .. قد فتنا قومك .. وأضلهم السامري (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) : هذه الفتنة يكشف السياق عنها في مواجهة موسى (ع) فراح موسى يسألهم في حزن وغضب (يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا واهلك عدوكم ونجاكم منه فعملكم هذا عمل من يريد ان يحل عليه غضب من الله. كأنما يتعمد ذلك تعمدا ويقصده بختياره. / (عندئذ يعتذرون بذلك العذر العجيب الذي يكشف عن التخلخل النفسي والسخف العقلي.

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦))

البيان : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ...) وهكذا نجد هارون أهدأ اعصابا واملك انفعالا من موسى. عندئذ يتجه موسى الى السامري. صاحب الفتنة من أساسها. وانما لم يتوجه اليه منذ البدء لأن القوم هم المسؤولون ان لا يتبعوه. وهارون هو المسؤول ان يحول بينهم وبين اتباعه وهو قائدهم.

٣٦٤

اما السامري فذنبه يجييء متأخرا. لانه زين لهم الفتنة. وكان عليهم ان لا يتبعوه لما دعاهم مع علمهم ان دعوته باطلة وهي ضلال وكفر. وهو لم يلزمهم بالقوة. بل هم اتبعوه باختيارهم.

ومما يروي ان حصان فرعون ابى ان يدخل البحر وراء بني اسرائيل فنزل جبرائيل على فرس وسار امامه فلحقها الحصان وبعده القوم فنظر السامري الى التراب يتحرك تحت فرس جبرائيل فأخذ قبضة من ذلك التراب وحملها معه. وسول له الشيطان ان يصيغ عجلا من ذهب وقذف فيه ذلك التراب فدبت فيه الحياة وصار يخور كما ذكر. وقال لهم هذا آلهكم وآله موسى وعكفوا على عبادته ولما نهاهم هارون قالوا لا ندع ذلك حتى يرجع الينا موسى كما ذكر. والله تعالى هو اعلم بحقيقة الحال.

والقرآن لم يقرر هنا ما حدث وانما هو قول السامري. وعلى اية حال فقد طرده موسى عليه لسلام. من جماعة بني اسرائيل مدة حياته. واوكل امره الى الله المنتقم الجبار.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩)

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) ..

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧))

البيان : اذهب مطرودا لا يمسك احد. لا بسوء ولا بخير. ولا تمس أحدا ـ وكانت هذه احدى العقوبات في ديانة موسى (ع) عقوبة

٣٦٥

العزل والنفي ومنع القرب منه وله اما الموعد الاخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله عزوجل (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) كذلك القصص الذي اوحينا اليك بشأن موسى (ع) ويرسم للمعرضين عن هذا الذكر ـ ويسميهم المجرمين ـ مشهدا في يوم القيامة. فؤلاء المجرمون يحملون اثقالهم كما يحمل المسافر أحماله. فيا لها من سوء الأحمال.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ .. زُرْقاً) فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه من الفزع والهلع يتخافتون بينهم الحديث. ويزيد مشهد الهول بروزا بالعودة الى السؤال لهم عن الجبال ما يكون شأنها (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) ويتجلى هذا المشهد الرهيب عند مشاهدة الجبال قاعا صفصفا خال من كل اعوجاج وتسكن وتنصت الجموع المحشودة المحشورة للواحد القهار.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

البيان : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) لقد غمرت الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع. فالكلام همس والسؤال تخافت. والخشوع خوف. والوجوه عانية. ولا شفاعة الا لمن ارتضى الله قوله. والظالمون يحملون ظلمهم. والاتقياء مطمئنون آمنون فلا

٣٦٦

يسمعون حسيسها وهم عن النار والخوف مبعدون) وتتلقاء ملائكة الرحمة وتبشرهم بالسعادة. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ٤١ س ٣٠ ي (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) وقد عهد الله الى آدم (ع) ان لا يأكل من الشجرة وهنا القوة الحقيقية التي تسيطر على الهوى والشهوات فلا تفسح لها المجال تفعل ما تشاء بل تلزمها بقانون الخالق وتلجمها بلجام التقوى الذي هو الفارق الوحيد بين العبيد والاحرار وبين اهل الجنة واهل النار. والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الانسانية حرية الانطلاق من الضرورات. وهذا هو الميزان الذي لا يخطىء في ترقي البشرية. من أجل ذلك شاءت العناية الآلهية التي ترعى هذا الكائن الانساني ان تعده لخلافة الارض باختبار ارادته. وها هي ذي التجربة الاولى تعلن نتيجتها الاولى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى)

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وكانت هذه رعاية من الله ان ينبه آدم (ع) من عدوه. ويحذره منه ومن خدعه وغروره. ولكن آدم قد نسى تلك الوصية الآلهية وخدعه ابليس.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)

قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ

٣٦٧

بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

البيان : كانت هذه رعاية من الله عزوجل. وعنايته ان ينبه آدم (ع) من عدوه. ويحذره (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) فهذا كله مضمون ما دمت في رحاب الجنة.

ولكن آدم غفل وهو يحمل الضعف البشري اتجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان ومن هذه الثغرة نفذ اليه الشيطان. (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) .. لقد لمس في نفسه موضع الضعف .. فالعمر البشري محدود والقوة محدودة من هنا يتطلع الى الحياة الطويلة والى الملك الطويل. ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما)

والظاهر ان العورتين منهما قد بدتا وانكشفتا. فأخذ يسترانهما بورق الجنة والسبب في نزع ثياب الجنة عنهما واخراجهما منها لعدم لياقتهما بعد في البقاء فيها لانها مطهرة والاكل من الشجرة يستدعي البروز الذي هو خروج نجس لا يليق بابرازه في الجنة المطهرة. ثم ادركت آدم وزوجه الرحمة من الله الرؤف الرحيم (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ). وذلك بعد ما استفاق آدم من غفلته وتحقق عصيانه فاسرع الى الندم والتوبة الى الله الغفور الرحيم ونظر الى انوار محمد وآله (ع) في ساق العرش فتوسل بهم الى ربه فتاب عليه (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ٢ س ٣٧ ي

ثم صدر الامر الى الخصمين اللدودين ان يهبطا الى الارض ساحة المعركة بعد الجولة الاولى (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين. فلم يعد عذر لآدم (ع) وبنيه من بعده. ان يقول احد منهم انما اخذت على غرة. ومن حيث لا ادري فقد ظهر الامر جليا وتمت الحجة بأوضح بيان. واعلن هذا الامر العلوي (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

٣٦٨

ومع هذا الاعلان الذي دوت له السموات والارضون. وشهده الملائكة اجمعون شاءت العناية الآلهية ان يرسل الله عزوجل لعباده رسله بالهدى ودين الحق اكمالا للنعمة واتماما للحجة. فاعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وأبليس. انه آتيهم بهدى منه (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) : يجيء هذا المشهد بعد القصة كأنه جزء منها. فقد اعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى فذلك امر قضى منذ بعيد (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى). فهو في امان من الضلال والشقاء باتباع الهدى الذي انزله الله. فالويل لمن يدّعي الايمان بالله وهو يظهر الفقر والاحتياج للاطباء. والزعماء والاغنياء. فكيف بمن يدعي العلم والاجتهاد ويذهبون الى لندن للمداواة والاستشفاء اين هم عن هذا الاعلان لقد كذبوا بادعائهم الايمان واتباع هدى الله عزوجل الذي من اتبعه فلا يضل ولا يشقى.

وما يضل انسان عن هدى الله الا ويتخبط في القلق والحيرة والضلال. والخوف والبلاء والشقاء الذي هو قرينه اينما كان ما دام منحرفا عن هدى الله. ولو كان في المرتع ثم الشقوة الكبرى في دار الخلود والبقاء. ومن اتبع هدى الله فهو في منجا من الضلال والشقاء والفقر والبلاء والاعداء ثم يقفز الى جنة الفردوس ونعيم لا يزول (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) فهي الحياة المقطوعة الصلة عن مصدر الخير والسعادة والرحمة الواسعة. انه في ضنك مهما يكن فيها من سعة متاع. انه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالخالق العظيم. والاطمئنان الى حماه. وحراسته وكفالته وشفايته من كل عناء وضنك الحيرة والقلق. ضنك الحرص والحذر. الحرص على ما في يده. والحذر من الفوت والذهاب ضنك الجرى وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما فات.

٣٦٩

ويستحيل ان يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار الا في رحاب القوي الغني الذي لا يغلب ولا يفتقر. وهو الخالق القهار. ولا يحس القلب براحة الثقة الا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. ان طمأنينة الايمان تضاعف الحياة طولا وعرضا. والحرمان منه شقاء وبلاء. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ...) فقد انقطع عني. واتصل بغيري (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) وهنا الفقر والاحتياج للأسافل والاشرار. وهنا الشقاء والبلاء الذي لا علاج له ولا دواء.

ولقد اسرف من أعرض عن ذكر خالقه العظيم. الغني الكريم.أسرف لأنه ترك الهدى الذي منحه الله اياه. وهو انفس ثروة وانفع ذخر. وقد اسرف حيث استعمل بصره في غير ما خلق له. فلم يبصر من آثار خالقه وآياته العظمى شيئا. فلذا الزمه ان يعيش معيشة ضنكا ويحشره الله اعمى.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١))

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣)

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥))

البيان : وحين تجول العين والقلب في مصارع القرون. وحين تطالع العين آثارهم ومساكنهم عن كثب. وحين يتملّ الخيال الدور وقد

٣٧٠

خلت من اهلها الاول. ويتصور شخوصهم الذاهبة واشباحهم الهاربة. وحركاتهم الساكنة حين يرى الفراغ والخواء منهم. عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها امام عينيه. لتبتلع الحاضرين كما ابتلعت الغابرين. وعندئذ يدرك بالحس يد القدرة الآلهية التي اخذت القرون الاولى. وهي قادرة على ان تأخذ ما يليها. وعندئذ يعي معنى الانذار. ويدرك العبر امامه معروضة للاولى الالباب. فما بال هؤلاء القوم لا يهتدون. وفي مصارع القرون الغابرة لا يعتبرون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً). (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) فاصبر على ما يقولون من كفر واستهزاء وجحود واعراض. ولا يضيق به صدرك فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة. اتجه الى ربك واخلص له في عملك فانه الكافي لمن استكفاه. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ).(زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة. ولكنها دعوة الى الاعتزاز بالقيم الاصيلة الباقية. وبالصلة بالله العلي العظيم. والرضى بقضائه وما يختاره لعباده المخلصين في طاعته. فلا تنهار النفوس على حطام الدنيا فتخسر سعادة الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين والشقاء العظيم. والبلاء الذي لا يزول.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) .. فاول واجبات الرجل المسلم ان يحوّل بيته الى بيت مسلم .. وان يوجه اهله الى اداء الفريضة التي هي صلة بين الخالق والمخلوق .. وبين العبد ومولاه الذي ان احرز رضاه لا يضره كلما فاته. واذا خسر رضاه. لا ينفع جميع ما في الوجود (فالى الله يرجع الامر كله) (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي على اقامتها وشروطها حتى تكون سببا للنهي عن كل منكر وفحشاء (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ

٣٧١

وَالْمُنْكَرِ) وهذه هي اثار الصلاة الصحيحة المقبولة. (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ) فليس ذلك الا تعنت ومكابرة من الكفرة الفجرة. (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ولقد اعذر الله المكذبين فارسل اليهم خاتم المرسلين ص وآله (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) فها هي الحجة الكبرى لله على الناس جميعا) (قل تربصوا فستعلمون من اصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) (فهو (تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى)

ـ ٢١ ـ سورة الانبياء عدد (١١٢) ماية واثنتا عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥))

البيان : نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي. الذي يتناسق مع موضوعها. ومع سياق العرض. يبدو هذا واضحا بموازنة نظمها مع سورتي مريم وطه مثلا. ويزيد هذا وضوحا بموازنة قصة ابراهيم (ع). والسياق في السورة يمضي في أشواط أربعة :

الاول : ويبدأ بمطلع قوي الضربات يهز القلوب بمصارع الغابرين ، ثم يهزها هزة اخرى بمشهد مصارعهم.

الثاني : فيرجع بالحديث الى الكفار الذين يواجهون الرسول ص وآله ، بالسخرية والاستهزاء.

٣٧٢

الثالث : ينتهي بتوجيه الرسول ص وآله الى بيان وظيفته (قل انما أنذركم بالوحي).

الرابع : فيعرض النهاية والمصير. في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة. والان نأخذ بالتفصيل : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ..)

مطلع قويّ يهزّ الغافلين هزا. والحساب يقترب وهم في غفلة. والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى. وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه بالاستهتار. (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ).

انها صورة للنفوس المطموسة. والنفس التي تفرغ من الجد والقداسة وتنتهي الى التلف. فلا تصلح للنهوض بعد. ان روح الاستهتار التي تلو بالمقدسات هي روح مريضة. وهؤلاء الذين كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن يصفهم بالغفلة عن اقتراب أجلهم. والمؤمنون يتلقون ذلك بالاهتمام الذي يذهل القلوب الحية. يقول بعضهم : نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وهذا هو الفارق بين القلوب الحية بالايمان. والقلوب الميتة من الضلال والاجرام ، التي تكفن ميتتها بالهوى ولا تتأثر بالذكر لانها خاوية من مقومات الحياة الروحية.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ... (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) فهم على موت قلوبهم وفراغها من الحياة لم يكونوا يملكون أنفسهم من أن تتزلزل بهذا القرآن المجيد. فكانوا يقولون محمد بشر فكيف نؤمن له. وقد أخبرهم الله بنجواهم الخفية التي لم يطلع عليها الا الله وهذا اعجاز ولكن لمن له قلب. (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ ..) فما من نجوى في مكان الا وهو مطلع عليها. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ .. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ).

٣٧٣

فقالوا : انه سحر وسحره الذي اطلعه على نجوانا الخفية (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ...)

ولم يثبتوا على صفة من الصفات : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) لان الذي سلاحه العناد لا ينفعه شيء مهما كان واضحا وجليا.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

البيان : لقد اقتضت حكمة الله عزوجل ان يكون الرسل من البشر. يتلقون الوحي من الله فيدعون الناس لما فيه سعادتهم وربحهم في الدنيا والاخرة ولذلك أطاعوا الله وأجابوا داعيه.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ان معجزة القرآن المجيد معجزة مفتوحة للاجيال. وليست كالخوارق التي كانت تحصل للانبياء السابقين وتنتهي وتزول بزوالهم لانها موقتة. لان القرآن معجزة الدهور والاجيال الى منتهى الابد. وقد كان فيه ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته المشرقة. فشرقوا وغربوا ببركتها. وفتحوا البلاد وأضاؤوها بالعلم والايمان. ذلك ما كان يشير اليه القرآن. وهم معرضون عنه ويواجهوه بالغفلة والتكذيب (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)

لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ

٣٧٤

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

البيان : القصم هو أشد حركات القطع. والعنف والتحطيم. والقضاء الحاسم على القرى التي ظلمت. فاذا هي مدمرة محطمة :

(وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).

وهي عند القصم يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها. ومن فيها. لاشتراكهم بالفعل والرضى. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) يسارعون بالخروج من القرية ركضا وعدوا.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ولكن لقد فات الاوان. فليقولوا ما يشاؤون فانهم غير متروكين حتى يقضي الامر وتخمد الانفاس. (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ). فيا له من حصيد. لا حركة فيه ولا حياة. وكان منذ لحظة يموج بالحركة وتضطرب فيه الحياة. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ومتى كان المسيطر على الوجود كله يسأل. ومن ذا الذي يسأله. (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ).

ان الخلق ليستبد بهم الغرور احيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب : ولماذا صنع الله كذا. وما الحكمة في هذا الصنيع. وكأنما يريدون ان يقولوا انهم لا يجدون الحكمة وهم جاهلون. ان الذي يعلم كل شيء ويدبر كل شيء ويسيطر على كل شيء. هو الذي يدرك الحكمة والسبب وثبوت حكمه دليل على عدم العبث فيما اراد واوجد.(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

انما هو الناموس المقرر ، والسنة المطردة ، فلا يكون هناك لهو ولا عبث في كل ما يفعله العقلاء والحكماء. فكيف بمن خلقهم وكونهم. وانما يكون هناك جد وحق فيغلب الحق الباطل. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى

٣٧٥

الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) هذه هي السنة المقررة. فالحق أصيل في طبيعة الكون. عميق في تكوين الوجود. والباطل يأتي من أهل الفساد (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) : لقد خلق الله عزوجل هذا الكون لحكمة. لا لعبا ولا لهوا ولا عبثا. بل خلقه لحكمة بالغة. فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون وتكوينه أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس. أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)

وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

البيان : السؤال عن اتخاذهم آلهة. هو سؤال استنكاري للواقع منهم. وفيه تهكم على تلك الالهة التي اتخذوها. فمن أول صفات الاله الحق أن يحيي ويميت. فهل الالهة التي اتخذوها تقدر على ذلك. ذلك منطق الواقع المشهود. والمستمد من واقع الوجود (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

فالكون قائم على ناموس واحد يربط بين أجزائه جميعا. هذا الناموس الواحد من صنع ارادة واحدة لإله واحد. فلو تعددت الذوات لتعددت الارادات ، والنواميس وحصل الفساد بالضرورة. تبعا لفقدان التناسق (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ). (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ

٣٧٦

يُسْئَلُونَ) .. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فهذا هو القرآن يشتمل على ذكر المعاصرين وذكر السابقين من الرسل وليس فيه لغير الواحد القهار (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فالتوحيد هي قاعدة العقيدة منذ أن بعث الله الرسل للناس. فلا تبديل فيها ولا تحويل.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

ودعوى البنوة لله عزوجل. دعوى اتخذت عدة صور. عند العرب ، واليهود ، والنصارى. وكلها باطلة افتراها اناس لغاية لهم وأهواء اتبعوها دعتهم الى هذا الافتراء على خالقهم العظيم والحساب غدا.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) انها جولة في الكون المعروض للانظار. والقلوب غافلة عن آياته العظمى. وفيها ما يحير الالباب ، حين ما يتأمله أهل البصائر المفتوحة والقلب الواعي. والحس اليقظ.

فالنظرة القائمة اليوم هي أن المجموعة النجمية ، كالمجموعة الشمسية. كانت سديما ثم انفصلت عنها وبردت. ونحن لا نحاول أن نحمل النص القرآني المتيقن على نظرية غير متيقنة.

ان القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك. انما هو منهج للحياة كلها. منهج لتقويم العقول لتعمل وتنطلق في حدوده.

وقد يشير القرآن أحيانا الى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا.

٣٧٧

(أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وان كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السموات والارض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن المجيد. ولكننا لا نجري النص القرآني وراء النظريات مهما كانت. ولا نبحث في النظريات لتوصلنا للتصديق بالقرآن الكريم. كلا. بل هو حقيقة يقينية في ذاته وافقته النظريات أم خالفته. فان وافقته أخذنا بها لموافقتها له. وان خالفته لا نلتفت اليها ولا نضطر للبحث فيها لنصدق قرآننا الحق المبين.

أما شطر الآية الثاني : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وهي حقيقة تثير الانتباه حقا. وان كان ورودها في القرآن المجيد لا يثير العجب في نفوسنا. ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن.

ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن المجيد يوجه أنظار الكفار الى عجائب صنع الله في الكون ويستنكر كيف لا يؤمنون به وهم يرونها مبثوثة في الوجود (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بخالقها ومنظمها ومديرها.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

البيان : فقد قرر الله العظيم في قرآنه الكريم : ان هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الارض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى ... وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الارض واستقرارها. فلنترك للبحوث كشفها. ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية. (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

٣٧٨

ذكر هذه الفجاج هنا مع الاشارة الى الاهتداء بصور الحقيقة الواقعة أولا. ثم يشير من طرف خفي الى شأن اخر في عالم العقيدة. فلعلهم يهتدون الى سبيل يقودهم الى الايمان بخالقهم.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) والسماء كل ما علا. ونحن نرى دفوقنا ما يشبه السقف. (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان. لهم علاقة وثيقة بحياة الانسان وسائر الاحياء على هذه الارض. والتأمل فيهم جدير بان يهدي القلب والضمير الى وحدة الناموس. ووحدة الارادة. ووحدة التصميم ووحدة خالقهم الحكيم.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ). فكل حادث فان وزائل. وكل ما له بدء له نهاية.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة. وهذه هي السنة التي ليس لها استثناء. فما أجدر الاحياء أن يحسبوا حساب هذا الفناء. بل هذا الانتقال. لان الذي يفنى ويزول ويموت هو الجسم المادي لا غير. وأما الانسان بنفسه الروحية فانه ينتقل عند موت الجسم اما الى الجنة أو الى النار فورا. ولذا ترى الخالق العظيم يخاطب الروح عند موت الجسم بهذا الخطاب اللطيف (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ويخاطب ملائكة العذاب أرواح الاشرار والعصاة بذلك الخطاب الهائل المخيف :

(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ...)

فالموت نهاية كل حي. وعاقبة المطاف : اما جنة أو نار خالدا فيها أبدا.

٣٧٩

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ان الابتلاء هو الامتحان في هذه الحياة. ليميز الخبيث من الطيب. فيستحق الخبيث الدمار والنار. ويستحق الطيب النعيم والجنان دائما ابدا.

ان الابتلاء بالخير أشد وطأة. وان خيل للناس انه دون الابتلاء بالشر. ان كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر. ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير. كثيرون الذين يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائمة في كيانهم.

كثيرون هم الذين يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع. وما يثيرانه من شهوات واطماع.

كثيرون هم الذين يصبرون على التعذيب والايذاء ، فلا يخيفهم ، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الاغراء بالمناصب والثراء.

ان الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء ويجند الاعصاب. اما الرخاء فيرخي الاعصاب. عجبا لأمر المؤمن ان أمره كله خير. وليس ذاك لأحد الا للمؤمنين الصمود والالتزام عند الامتحان.

والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الاطراف فاذا هو مشهد ساحر.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠))

٣٨٠